فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (39- 40):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين ناريًا ومائيًا، وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين مائيًا وناريًا، وقد تكلمنا على كل منها في موضعه بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة.
فأما الأول من هذين المثلين: فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام.
والقيعة: جمع قاع، كجار وجيرَةٍ. والقاع أيضًا: واحد القيعان، كما يقال: جار وجيران. وهي: الأرض المستوية المتسعة المنبسطة، وفيه يكون السراب، وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار. وأما الآل فإنما يكون أول النهار، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء، حسبه ماءً فقصده ليشرب منه، فلما انتهى إليه {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}، فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حَصَّل شيئًا، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها، ونوقش على أفعاله، لم يجد له شيئًا بالكلية قد قُبل، إما لعدم الإخلاص، وإما لعدم سلوك الشرع، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
وقال هاهنا: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
وهكذا رُوي عن أُبي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة وغير واحد.
وفي الصحيحين: أنه يقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عُزَيْر ابن الله. فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون؟ فيقولون: أي رَبَّنَا، عَطشنا فاسقنا. فيقال: ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فينطلقون فيتهافتون فيها.
وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب. فأما أصحاب الجهل البسيط، وهم الطَّماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر، الصم البكم الذين لا يعقلون، فمثلهم كما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}: قال قتادة: وهو العميق. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي: لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يدري أين يذهب، ولا هو يعرف حال من يقوده، بل كما يقال في المثل للجاهل: أين تذهب؟ قال: معهم. قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري.
وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} يعني بذلك: الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهي كقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]، وكقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
وقال أُبيّ بن كعب في قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} فهو يتقلب في خمسة من الظلم: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات، إلى النار.
وقال الربيع بن أنس، والسُّدِّي نحو ذلك أيضًا.
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي: من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر، كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] وهذا في مُقابلة ما قال في مثل المؤمنين: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورًا، وعن أيماننا نورًا، وعن شمائلنا نورًا، وأن يعظم لنا نورًا.

.تفسير الآيات (41- 42):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}
يخبر تعالى أنه يُسَبِّحه من في السموات والأرض، أي: من الملائكة والأناسي، والجان والحيوان، حتى الجماد، كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
وقوله: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} أي: في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة؛ ولهذا قال: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي: كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، عز وجل.
ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}.
ثم أخبر تعالى: أن له ملك السموات والأرض، فهو الحاكم المتصرف الذي لا معقب لحكمه، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي: يوم القيامة، فيحكم فيه بما يشاء؛ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، فهو الخالق المالك، ألا له الحكم في الدنيا والأخرى، وله الحمد في الأولى والآخرة؟!.

.تفسير الآيات (43- 44):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (44)}
يذكر تعالى أنه بقدرته يسوق السحاب أول ما ينشئها وهي ضعيفة، وهو الإزجاء {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي: يجمعه بعد تفرقه، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي: متراكمًا، أي: يركب بعضه بعضًا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} أي المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي: من خَلَله.
وكذا قرأها ابن عباس والضحاك.
قال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المثيرة فَتَقُمّ الأرض قمًا، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، رحمهما الله.
وقوله: {وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ}: قال بعض النحاة: {من} الأولى: لابتداء الغاية، والثانية: للتبعيض، والثالثة: لبيان الجنس. وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله: {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} ومعناه: أن في السماء جبالَ بَرَد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال هاهنا عبارة عن السحاب، فإن {من} الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا، لكنها بَدَل من الأولى، والله أعلم.
وقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} يحتمل أن يكون المراد بقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ} أي: بما ينزل من السماء من نوعي البرد والمطر فيكون قوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} رحمة لهم، {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} أي: يؤخر عنهم الغيث.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ} أي: بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم. ويصرفه عمن يشاء أي: رحمة بهم.
وقوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ} أي: يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.
وقوله {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي: يتصرف فيهما، فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم يأخذ من هذا في هذا، فيطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلا. والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ} أي: لدليلا على عظمته تعالى، كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ} [آل عمران: 190]. وما بعدها من الآيات الكريمات.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}.
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم، في خلقه أنواع المخلوقات. على اختلاف أشكالها وألوانها، وحركاتها وسكناتها، من ماء واحد، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالحية وما شاكلها، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإنسان والطير، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام وسائر الحيوانات؛ ولهذا قال: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي: بقدرته؛ لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

.تفسير الآية رقم (46):

{لَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}.
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم والأمثال البينة المحكمة، كثيرًا جدًا، وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

.تفسير الآيات (47- 52):

{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)}.
يخبر تعالى عن صفات المنافقين، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولا بألسنتهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}.
وقوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} أي: إذا طلبوا إلى اتباع الهدى، فيما أنزل الله على رسوله، أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه. وهذه كقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60، 61].
وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه، عن الحسن، عن سَمُرَة مرفوعًا: «من دُعي إلى سلطان فلم يجب، فهو ظالم لا حق له».
وقوله: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}، أي: وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم، جاؤوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله: {مُذْعِنِينَ} وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق، وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثَمّ. فإذعانه أولا لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق، بل لأنه موافق لهواه؛ ولهذا لما خالف الحقّ قصده، عدل عنه إلى غيره؛ ولهذا قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} يعني: لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مَرَض لازم لها، أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. وأيّا ما كان فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم، وما هو عليه منطو من هذه الصفات.
وقوله: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي: بل هم الظالمون الفاجرون، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور، تعالى الله ورسوله عن ذلك.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا مبارك، حدثنا الحسن قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحِقّ أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق. وإذا أراد أن يظلم فدُعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، وقال: أنطلقُ إلى فلان. فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان بينه وبين أخيه شيء، فدُعِي إلى حَكَم من حُكَّام المسلمين فأبى أن يجيب، فهو ظالم لا حق له».
وهذا حديث غريب، وهو مرسل.
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله، فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعًا وطاعة؛ ولهذا وصفهم تعالى بفلاح، وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب، فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقال قتادة في هذه الآية: {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ذُكر لنا أن عُبَادة بن الصامت- وكان عَقَبيَّا بدريا، أحد نقباء الأنصار- أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وَمَاذا لك؟ قال: بلى. قال: فإن عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومَنْشَطك ومكرهك، وأثرةً عليك. وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وألا تنازع الأمرَ أهله، إلا أن يأمروك بمعصية الله بَوَاحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة: وَذُكر لنا أن أبا الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله، وللخليفة وللمؤمنين عامة.
قال: وقد ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يقول: عُروة الإسلام شهادةُ أن لا إله إلا الله، وإقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين.
رواه ابن أبي حاتم، والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنة رسوله، وللخلفاء الراشدين، والأئمة إذا أمروا بطاعة الله كثيرة جدًا، أكثر من أن تحصر في هذا المكان.
وقوله {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه، {وَيَخْشَ اللَّهَ} فيما مضى من ذنوبه، {وَيَتَقِهِ} فيما يستقبل.
وقوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} يعني: الذين فازوا بكل خير، وأمنُوا من كل شر في الدنيا والآخرة.